زاد العقول والأرواح ( 6 ):
"واسجد واقترب"
كان الحديث في المقال السابق ضمن هذه السلسلة عن قول الله تعالى: { اقرأ باسم ربك}.
وهو أول أمر نزل به جبريل الأمين على نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.
وهو ما افتتحت به سورة العلق.
والعجيب أن هذه السورة بدأت بالأمر بالقراءة، وختمت بالأمر بالسجود والاقتراب من الله تعالى، وذلك في قوله جل ذكره: { كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
فالعلم النافع يبدأ بالتعلم والقراءة، وينتهي بالسجود لله تعالى والاقتراب منه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد له.
فمن لم توصله قراءته إلى السجود لله، ولم يقرّبه علمه من ربه جلّ في علاه؛ فليعلم أن علمه ليس بنافع، وأن قراءته ليست على منهج الله.
العلم النافع والعمل الصالح متلازمان لا ينفكان، فلا علم في الإسلام بلا عبادة وعمل صالح، ولا عبادة ولا عملاً صالحاً بلا علم. فاعلم ذلك يا طالب العلم.
ومعلوم أن السجود لله تعالى هو غاية الذل والخضوع لله جل وعلا، حيث يضع العبد وجهه الذي هو أشرف أعضائه على الأرض التي توطؤ بالأقدام، وذلك تعبيراً عن كمال الذل والخضوع والعبودية لله تعالى، ولذلك كان السجود عبادة جليلة عظيمة لا تجوز إلا لله، ولا تكون إلا لله.
ومن هنا يؤخذ أن العالم الحق هو من قاده علمه إلى الخضوع لله، والتواضع لعباد الله. فإذا رأيت من يدّعي العلم وهو متكبر جبار؛ فاحكم عليه بالجهل المركب، ولا تتردد. فالتواضع ثمرة العلم، والكبر نتيجة الجهل.
وإذا أردت أن تتعرف على مثالٍ بيّن للجهل فعليك بقراءة ما ورد في وسط السورة – بين الأمر بالقراءة والأمر بالسجود والاقتراب -؛ فأبو جهل طغى وتكبر، ونهى عبداً أراد السجود والصلاة، وكّذب وتولى، فحُكم عليه بالجهل، فلا يعرف إلا بهذه الكنية المخزية، وتوعده الله بأن يأخذه أخذا شديداً بناصيته ليلقى في نار حامية. {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى . إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى . أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى . عَبْدًا إِذَا صَلَّى . أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى . أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى . أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى . أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى . كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ . نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ . فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ . سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [العلق: 6 - 18]
ولا يخفى أن من سجد لله فقد أعلن الاستجابة لله، وتبرأ من الكبر والإعراض عن أوامر الله، وخالف بفعله وحاله الشيطانَ الرجيم، الذي أُمر بالسجود فأبى واستكبر، فكان من الكافرين المستحقين للنار – عياذا بالله -. ولذلك يبكي الشيطان كلما سجد الإنسان المسلم، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ".
فما أعظم السجود لله! وما أحسن الاقتراب من الله! ويا لسعادة من وفقه الله لتلك العبادة، فأكثر من السجود وأطاله!
ووالله إن لحظات السجود لله لهي أجمل اللحظات في هذه الدنيا؛ فيا لحرمان من حرمها!!
في صحيح مسلم عن مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ، قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ أَوْ قَالَ قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي: مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ.
وفيه عن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ» فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكثرة السجود لك يا أرحم الراحمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق