أحسن ابن الجوزي في حرصه على وقته، لكنه ترك ما هو أحسن له عند ربه!
كنت قد قرأت كما قرأ غيري ما كان يفعله الإمام ابن الجوزي عندما يزوره العامة وأهل البطالة من استغلاله لوقت زيارتهم في بري الأقلام وترتيب الأوراق، لأجل أن يحافظ على وقته.
قال رحمه الله: ( أعوذ بالله من صحبة البطالين! لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، وما يتخلله غيبة!
وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان.
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير، كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم، وقعت وحشة، لموضع قطع المألوف! وإن تقبلته منهم، ضاع الزمان! فصرت أدافع اللقاء جهدي: فإذا غلبت، قصرت في الكلام، لأتعجل الفراق.
ثم أعددت أعمالًا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه.) انتهى من صيد الخاطر.
ولا شك أن تصرفه هذا مما يُعجبُ من قرأه أول مرة، ويُعَدُّ في مناقب هذا الإمام الحريص على وقته أشد الحرص.
ثم وجدت كلاما للعلامة عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - أشار فيه إلى حسن صنيع ابن الجوزي وغيره ممن يفعل مثله، ثم نبّه على أن هناك طريقة أحسن نفعا وأكثر ثوابا وأجرا، وإليكم نص كلامه:
(( سبحان من فاوت بين أهل اليقظة في قوة السير وضعفه، وفي استغراق جميع الأوقات في العبادة وعدمه، منهم من يكون سيره مستقيما في ليله ونهاره، ومع ذلك يتخير من الأعمال أفضلها وأكملها، ولا ينزل من فاضلها إلى مفضولها إلا لمصلحة تقترن بالمفضول توجب أن يساوي العمل الفاضل ويزيد عليه، وقد يكون المباح في حق هذا عبادة لكمال إخلاصه، ونيتُه بذلك المباح أن يجم به نفسه ويتقوى به على الخير، فتراه يتنقل في مقامات العبودية في كل وقت بما يناسبه ويليق به، لا فرق عنده بين العبادة المتعلقة بحقوق الله المحضة، وبين العبادة المتعلقة بحقوق الخلق على اختلاف مراتبهم وأحوالهم .
ولقد ذكرت في هذا المقام كلاماً لبعض الشيوخ لما رأى كثرة المجتمعين ببعض أصحابه قال مؤدباً لهم مقوماً :يا مناخ البطالين. يريد أنهم يقطعون عليه وقته عن الخير ،وكلاماً أيضاً للشيخ أبي الفرج بن الجوزي في سياق الخبر عن نفسه بحفظه الوقت،وأنه رأى مما لابد منه أن ينتابه أناس للزيارة،وأنه لما رأى أن هذه الحال تقطع عليه وقته أعد للوقت الذي يجتمعون فيه إليه أشياء من أمور الخير لا تمنع من زيارتهم ، ولا تقطع عليه وقته ، مثل تقطيع الأوراق ، وصنع المداد ، وبري الأقلام التي لابد له منها لتصنيف العلوم النافعة ، وهي لا تمنع الحديث مع الناس والاستئناس بهم .
فقلت : سبحان مَن مَنَّ على هؤلاء السادة بحفظ أوقاتهم ، وبقوة العزيمة والنشاط على الخير، ولكن كل كمال يقبل التكميل والرقي إلى حالة أرفع منه؛ فلو أن هؤلاء الأجلاء الفضلاء جعلوا اجتماعهم مع الناس للزيارة والدعوات وغيرها من المجالس العادية فرصة يغتنمون فيها إرشاد من اجتمع بهم إلى الخير والبحث في العلوم النافعة ، والأخلاق الجميلة ، والتذكر لآلاء الله ونعمه ، ونحو ذلك من المواضيع المناسبة لذلك الوقت ، ولذلك الاجتماع؛ بحسب أحوال الناس وطبقاتهم ، وأنهم وطَّنُوا أنفسهم لهذا الأمر، وتوسلوا بالعادات إلى العبادات ، وبرغبتهم إلى الاجتماع بهم إلى انتهاز الفرصة في إرشادهم ، لحصلوا بذلك خيراً كثيراً ، وربما زادتهم هذه الاجتماعات مقامات عالية ، وأحوالاً سامية مع ما في ذلك من النفع العظيم للعباد ؛ لأنه ليس من شروط نفع العالم أن يرشد فقط المستعدِّين لطلب العلم من المتعلمين ، بل يكون مستعداً لإرشاد الخلق أجمعين بحسب أحوالهم واستعدادهم ، وعلمهم وجهلهم ، وإقبالهم وإعراضهم ، وأن يعامل كل حالة بما يليق بها من الدعوة إلى الخير والتسبب لفعله ، وتعطيل الشر وتقليله ، وأن يستعين الله على ذلك. فمن كانت هذه حاله ، لم يتبرم باجتماعه بالخلق مهما كان حريصاً على حفظ وقته ؛ لأن التبرم والتثاقل إنما هو للحالة التي يراها العبد ضرراً عليه ، ومفوتة لمصالحه ، والله الموفق وحده لا شريك له )))اهـ.
من الفتاوى السعدية ضمن مجموع مؤلفات الشيخ عبدالرحمن السعدي 24 / 38 - 39
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق