الأحد، 2 فبراير 2014

فنّ جليل من فنون البلاغة، جدير بالرعاية والعناية:

قال الله تعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

( ألمحت الآية الكريمة إلى فنٍّ من أجلِّ فنون البلاغة وأكثرها استقطاباً للمقاصد السامية والمثل الرفيعة، وهو فنّ "التهذيب"، أي ترداد النظر فيما يُكتب ويُنظم.
وقد خلصت من الإبهام، ودلت على آداب المخاطبة ليكون الكلام بريئًا من المطاعن بعيدًا عن الملاحن.) [ إعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش ج١ ص١٦٢]

( وتهذيب الكلام عبارة عن ترداد النظر فيه بعد عمله نظماً كان أو نثراً ، وتغيير ما يجب تغييره، وحذف ما ينبغي حذفه، وإصلاح ما يتعين إصلاحه، وتحرير ما يدق من معانيه، وإطراح ما يتجافى عن مضاجع الرقة من غليظ ألفاظه؛ لتشرق شموس التهذيب في سماء بلاغته، وترشف الأسماع على الطرب رقيق سلافته؛ فإن الكلام إذا كان موصوفاً بالمهذب منعوتاً بالمنقح علت رتبته، وإن كانت معانيه غير مبتكرة. 

وكل كلام قيل فيه: لو كان موضع هذه الكلمة غيرها، ولو تقدم هذا المتأخر، وتأخر هذا المتقدم، أو لو تمم هذا النقص بكذا، أو لو تكمل هذا الوصف بكذا، أو لو حذفت هذه اللفظة، أو لو اتضح هذا المقصد وسهل هذا المطلب لكان الكلام أحسن والمعنى أبين- كان ذلك الكلام غير منتظم في نوع التهذيب.
وكان زهير بن أبي سلمى معروفاً بالتنقيح والتهذيب، وله قصائد تعرف بالحوليات. قيل: إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها وينقحها في أربعة أشهر، ويعرضها على علماء قبيلته أربعة أشهر. 
ولهذا كان الإمام عمر بن الخطاب مع جلالته في العلم وتقدمه في النقد يقدمه على سائر الفحول من طبقته.

 وما أحسن ما أشار أبو تمام إلى التهذيب بقوله:

خذها ابنةَ الفكرِ المهذَّبِ في الدَّجى ** والليلُ أسودُ رقعةِ الجلباب

فإنه خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات، وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعاً ومرآة التهذيب فيه صقيلة؛ لخلو الخاطر وصفاء القريحة لاسيما وسط الليل.
قال أبو عبادة البحتري: كنت في حداثتي أروي الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم، ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت إليه، واتكلت في تعريفه عليه. 
فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عليها ثقل الغذاء. واحذر المجهول من المعاني وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك لا تعمل إلا وأنت فارغ القلب ولا تنظم إلا بشهوة فإن الشهوة نعم المعين على حسن النظم. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما استقبحوه فاجتنبه.) انتهى

من "جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب"- أحمد الهاشمي
(عن خزانة الأدب وزهر الآداب باختصار)

ليست هناك تعليقات:

نوع التعليق المطلوب

Disqus إدخال إسم المستخدم