من فاته هذا الكتاب فاته شيء كثير ... ما أمتعه من كتاب وما أحزنه !!
للكاتب القدير: ماجد البلوشي - بارك الله فيه -
كتاب “الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد” للدكتور مفرح بن سليمان القوسي، صفحات من نور العزّة وقبس من ضياء اليقين، وزفرات من وجع العالِم المقهور، وأنّات من صدر الإنسان المكظوم، تقرؤه فتتفقد سريعاً قلبك وتبحث عن روحك ولا تكاد تجف دمعتك.
أقطع لك – أيها المُحب – أنها مادة دسمة صالحة للقراءة والتأمل والغوص في حياة رجل نذر نفسه ووقته لله، لك غنمها وعليَّ غرمها فلا يفوتنك الكتاب فإنه جهد سنوات طويلة من البحث للمؤلف الذي نال به درجة الماجستير.
من لم يقرأ هذا الكتاب الذي تنثال معلوماته كنهر سلس رقراق صافٍ يختال في مجراه المتحدّر بين خضرة وبساتين غناء وورود فوّاحة فقد فاته شيء كثير، لأن مؤلفه تعب فيه تعباً شديداً فجال معه لأقاصي البلاد طمعاً في توثيق معلومة أو جمع مادة أو تدوين كلمة عن الشيخ، فجمع سيرة هذا العالم الشامخ المجاهد من أفواه الرجال وبطون الكتب وأعمدة الصحافة، فجمع وأوعى.
كما أنه لخص فيه مواقفه من الفكر المعاصر في عدد من القضايا بطريقة جميلة بعيدة عن حشو المعرفة أو تطويل الكلام، وهو أفضل ما في الكتاب وأمتنه وأغزره فائدة.
الشيخ مصطفى صبري – الوالد الحنون والمناضل الشرس والعالم الربّانيُّ والكاتب الصحفيُّ المتمرّس والسياسي المحنك والمناظر البارع والعابد القانت لله – تلخص سيرته حال العالم العامل الطريد الشريد المؤثر للآخرة على الأولى، المُقبل على الحياة بصبر ومصابرة وروح شامخة ونفس عزيزة مثابرة، ما كأنه خُلق لشيء إلا للعلم والمعرفة وجهاد الكلمة ومنازلة الملاحدة والعلمانيين والتغريبيين والفت في عضد دعوتهم، وهذا من أشرف العلوم التي تحتاجها الأمة في كل عصر ومصر، فقد جمع المجد من أطرافه قياماً لله بالجهاد في سبيله بالعلم والحجة والبرهان وعملاً وسلوكاً وامتثالاً، لا كالكثير من علماء العصر ممن يأنسون بتقرير المسائل وإحكام فصولها ويركنون إلى الدعة ويؤثرون السلامة ولا تكاد تجدهم في ميادين الجهاد ومثافنة المنافقين والتصدي للأفكار الزائغة.
في الكتاب قصة سفره الأولى البائسة التعيسة إلى مصر، يالله ما أقساها من معاناة وأمضّها من محنة لرجل كان عمّا قريب شيخ الإسلام في تركيّا ومفتيها الأكبر وملء سمع الدنيا فيها وبصرها فما كان يُجالسه إلا السلاطين ولا يمشي إلا في المواكب، فقد خرج من تركيا بعد أن أطاح العلمانيّون بالحكومة العثمانية ففر الشيخ من تركيا تصحبه أسرته بعد أن أعلن في تركيّا أن هذه الحكومة الجديدة حكومة تُعلن الحرب على الدين وأنها حكومة علمانيّة ظالمة، فصدح بالحق وأعلن موقفه بشجاعة العلماء الربّانيين، وقد عانى الشيخ في هذه المدة معاناة شديدة نزل معها إلى حد الفاقة والفقر مما اضطره لبيع بعض كتبه حتى يحصل على قيمة سفره مع أسرته بالباخرة، فلم يجد له مكاناً تفي به نقوده إلا في الدرجة الثالثة.
وحين دخل مصر كان المصريّون معظّمين لأتاتورك وكانت سيرة الشيخ مصطفى فيهم غير حميدة لما يعلمونه من مناوأته لأتاتورك لهذا قاموا بإيذائه أذى شديداً، حتى إنهم كانوا يرمونه وأسرته في الطرقات في القاهرة والاسكندرية بالكساحة والطماطم الفاسد، بل بالغوا في إهانته وأذيّته ورميه بالعظائم والشنائع مما جعله يلزم بيته ولا يبرحه صابراً محتسباً، فتفكّر كيف يكون حال رجل من الصالحين معه أسرته وبناته يفرُّ بدينه من كيد أعدائه ليجد في صدور من نزل عليهم من إخوانه في الإسلام حنقاً وتغيّظاً وزفيراً.
ولم يدعه ذلك إلى الصمت والإعراض عن العلم ونشره التماساً للسلامة في الدنيا أو المجاملة للمصريين حتى لا ينفوه من الأرض أو يبعدوه من ديارهم، بل حين سأله بعض الصحفيين عن رأيه في أتاتورك انبرى مبيّناً حاله بضمير المؤمن المطمئن وحال العارف بالله الذي يبحث عن رضاه سبحانه في سكناته وعزماته وقوله وفعله وإن أغضب ذلك الناس عليه، ومما قاله في مقالته: “وإن كان أقوى ظنّي أن أكثر الناس لا يقبلونه (أي رأيه)، ولكن لكي يكون ذخيرة لي في الآخرة وحجة عليهم آخذهم بها هناك، وإن كان لساني قاصراً في العربية فليعذرني كرام القراء، على أنَّ لحن اللسان ليس كلحن القلب” وقد نُشرت المقالة في جريدتي (المقطم) و(الأهرام) فثارت عليه ثائرة المصريين ورموه عن قوس واحدة وهاجموه هجوماً عنيفاً.
غير أن حال المصريين هذه لم تدم، فقد عرفوا بعد مدة حقيقة أتاتورك وموقفه فعدلوا عن معاملتهم السيئة للشيخ حين عاد لمصر بعد سنوات عدة، فأجرى له الملك راتباً شهرياً واحتفوا به احتفاءً كبيراً وأصبحت داره العامرة والآهلة بالفضل والمعروف ملاذاً لعامّة علماء مصر ومثقفيها.
وفي الكتاب كذلك قصة إخراجه من اليونان إلى منطقة أخرى وتغرّبه بين الأمصار والأقطار ومعه أسرته وبناته شيخاً ينوء بحمل السنين الثقال على ظهره المُثقل بشجون الدنيا وهموم العلم وأثقال العيال وأعباء قوتهم، وفيها استقبال رجال الدين النصارى له من البطارقة والرهبان والقساوسة فانحنوا اجلالاً له وتقديراً لعلمه وبالغوا في تعظيمه إلى حد بعيد وهو ما لم يجد عشر معشاره عند علماء البلاد الإسلامية التي قصدها وزارها وهي كثيرة، ثم إن الشيخ آلمه حاله ثمَّ إذ كيف يبقى في بلاد كلّها نصارى ويخشى إذا مات أن لا يُشيّعه إلا النصارى وأن لا يُدفن إلا في مقابرهم مع أنه كان معظّماً فيهم موقراً بينهم لكنّها روح المؤمن التوّاقة إلى إخوانها من الأبرار الأتقياء الأنقياء، فطلب الوساطة لدى عدد كبير من أصحابه لينتقل إلى دولة مسلمة يأوي إليها فاراً بدينه فلم يجد من يقبل به أو يدخل في أمره، خوفاً من نقمة مصطفى كمال أتاتورك وحكومته، فرجع كظيماً آسفاً قد فتَّ الحُزن في فؤاده وشتّت شمل تفكيره.
ألا ما أشد غربة العلماء وأقسى محنتهم!
مما استوقفني في الكتاب ثناؤه على عدد من الأدباء فقد كان الشيخ مصطفى قارئاً نهماً يقضي جل وقته في القراءة والبحث والنظر، وكان يطربه أسلوب العقاد ويقول عنه: ما أقدَرَ هذا القلم! فهو قوي الحجة.
ويقرأ أيضاً بطرب للرافعي ويقول عنه: ما رأيت أديباً ينقل الإنسان من عالم إلى عالم آخر مثل مصطفى صادق الرافعي، وكان يقول عنه: إنه لا يسمع ضجيج الدنيا (كان الرافعي مصاباً بالصمم) بل كان يسمع إلهام قلبه ووحي ضميره ونداء إيمانه.
وفي الكتاب كذلك تفرّسه في سيّد قطب وإعجابه به ودعاؤه له بالثبات والهداية، وكيف أن أدب سيد وأسلوبه نفعاه فجعلا له جاذبيّة وروحانيّة وقبولاً.
وهذا يعني أنَّ الشيخ كان مواكباً لثقافة أهل عصره، مطلعاً عليها، مع أن جملة من هؤلاء في سن أبنائه ومقام طلابه، لكنها روح العالم المربّي، وجذوة الهمّة الباعثة على النشاط المعرفي والتزوّد من العلم حتى لو كان من صغار النّاس وحدثائهم في المعرفة.
وفيه قصة لطيفة عن كتاب دفعه إليه أحد العلماء وقد طلب من الشيخ قراءته ونقده لما فيه من الأمور المنحرفة فلم يجد الشيخ وقتاً إلا حين سجنته الحكومة في بوخارست برومانيا فأخذ الكتاب معه في السجن وقرأه وكتب عليه نقداً ورداً، وكان يخبئ أوراق الرد في إبريق حديدي صنعه له أحد الحدادين خصيصاً من أجل إخفاء أوراق الكتاب فيه، فلم خرج فتح الإبريق وأخرج الأوراق وطبع الكتاب.
تصفه ابنته بأنه كان يبكي كالطفل حين تمر به آية وعيد أو تحذير من النار وسعيرها أو تذكير بالجنة ونعيمها حتى إن أهل بيته كانوا يستيقظون أحياناً على صوت بكائه في منتصف الليل.
تضمن الكتاب كذلك عرضاً لمؤلفات الشيخ وردوده، ومما تعرض له الباحث موقف الشيخ من الملاحدة ونقض حججهم وشبههم لاسيما في باب النبّوات، و موقفه كذلك من التغريبيين لاسيما في قضايا المرأة وحجابها والرد أيضاً على شبهات قاسم أمين ودعوته لتحرير المرأة، وأيضاً عرض لموقف الشيخ من العلمانيين ورده على كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبدالرازق وفيه كلام عن التشريع والحاكمية ورد شبه دعاة القوانين الوضعية
بقي أخيراً أن تعلموا أن الشيخ عاش فقيراً ومات فقيراً لم يعرف طريقاً إلى القصور ولا رغب في تكديس الأموال، لكنه ترك تراثاً علمياً ثريّاً غنيّاً بالعلم والحجج وكسر شبه الملاحدة والعلمانيين وجهداً دعوياً قل أن يتكرر نظيره في هذه الأزمنة المتأخرة، فهو رجل عاش لله ولدينه وقضى أغلب حياته يذب عن الشريعة ويقف في وجه أعداء الدين ويجالدهم بصبر وعلم وعزة وشموخ.
الكتاب قطعة مؤتلفة نديّة من اللذة المعرفيّة الغامرة، بدأت القراءة فيه فما تركته حتى أنهيته في يومين متواصلين متفرغاً له علماً بأنه يزيد على 700 صفحة لكنها صفحات ممتعة عذبة، وفيها فصول تراجيديّة بائسة تعيسة تقطع نياط القلب حزناً وكمداً وتستدر الدمع ويستعبر معها المرء، تلخّص حال الحياة بحلوها ومرّها وصفوها وكدرها، غير أن هذه الثنائيات المزدوجة المتضادة لم تغيّر لون الشيخ أو نكهته المعرفيّة وطبعه السلوكي، فقد بقي هو هو الرجلَ المجاهد المناضل الصابر المحتسب، سواءً كانت الدنيا مقبلة أو مدبرة.