الجمعة، 31 يناير 2014

زاد العقول والأرواح ( 3 )

عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه." [ أخرجه مسلم ١٩٠٩].

الله أكبر
ما أحسن الصدق مع الله!
وما أعظم الدعاء عند الله!

يقرر هذا الحديث حقيقة كبرى، وهي أن العبرة بما في القلوب من الصدق والعزيمة والإرادة؛ فمن كان صادقا في طلب الشيء مريدا له بحق راغبا فيه تحقق له مراده وبلّغه الله ما يطلبه. 
وجميلٌ ما قاله ابن الجوزي في كشف المشكل من حديث الصحيحين : (  اعْلَم أَن النِّيَّة قطب الْعَمَل عَلَيْهَا يَدُور، وَقد يُفِيد مُجَرّد النِّيَّة من غير عمل، وَلَا يُفِيد عمل من غير نِيَّة. وَمن صدقت نِيَّته فِي طلب الشَّهَادَة فَكَأَنَّهُ استسلم للْقَتْل، فَلَا يضرّهُ بعد بدنه عَن الْجِهَاد لعذر مَعَ صدق نِيَّته، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} [النِّسَاء: ١٠٠] وَكَذَلِكَ من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا، وَكَذَلِكَ لَو نوى قيام اللَّيْل فغلبه النعاس كتب لَهُ ثَوَاب نِيَّته.)

فالمطلوب منا ابتداء في كل أمر أن نكون صادقين في طلبه جادين في بذل الأسباب التي توصل إليه؛ فإذا فعلنا وصلنا، ولو لم نصل فزنا بالأجر والثواب كاملا.
ومما يدل على صدق المرء في طلب الشيء كثرةُ دعائه الله وكثرة تحديث نفسه به.

وهذه علامة تُعرِّف العبد باهتماماته وأولوياته في الحياة؛ فمن اهتم بأمر ورغب فيه فلا بد أن يسأل ربه أن يحققه له.

فقل لي ماذا تكثر من سؤاله في دعائك أقل لك ما اهتماماتك وما أولوياتك في حياتك.
فمن زعم أن يهتم بأمر المسلمين وهو لا يدعو لهم؛ فليس بصادق في زعمه.

ومن ادعى أن همّه الآخرة وسعيه لها، وهو لا يكثر في دعائه من طلب النجاة فيها من العذاب والفوز بالجنة؛ فلا تقبل دعواه.
ومن قال إنه حريص على الهداية والاستقامة وهو لا يسأل ربه بصدق أن يهديه وأن يوفقه للاستقامة على دينه؛ فلا مجال لتصديقه.

وهكذا في كل الأمور.

وما أجمل قول شيخ الإسلام في الرسالة الواسطية: "ومن تدبر القرآن طالباً للهدى تبين له طريق الحق".
زاد العقول والأرواح ( ٢ )

{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}
{ ولباس التقوى ذلك خير}

العقلاء من الناس، والموفقون من عباد الله هم من يجمعون بين غذاء الروح وغذاء العقل وغذاء الجسد، ويهتمون بجمال الباطن أكثر من اهتمامهم بجمال الظاهر.

والجاهلون لا يهتمون إلا بالمظاهر.
فتجد كثيرين يظهرون أمام الناس وقد لبسوا أحسن لباس، فيعجبك مظهرهم وجمال ملبسهم، ولكنك تتفاجأ بضحالة معلوماتهم وسطحية تفكيرهم، وتفاهة اهتماماتهم.
ولا شك أن مثل هذه المظاهر من دلائل الجهل.
ومن أبرز مظاهر الجهل في هذا الباب الاهتمام بالدنيا على حساب الآخرة، والاشتغال بزينتها ولهوها ولعبها ومتاعها، وترك الاستعداد للآخرة التي هي الحياة الحقيقية الباقية.

ومن الأمثلة اليومية التي تقرر هذا المعنى وتؤكده:
أنه لا يكاد يوجد بين الناس من يترك تناول الوجبات الرئيسية من الطعام وهي ثلاث وجبات يوميا التي هي غذاء الجسد، ولكنْ كثير من الناس ينسى غداء روحه وعقله، وغذاء الروح هو الذكر وقراءة القرآن والأعمال الصالحة، وغذاء العقل هو العلم النافع الذي يكتسب بالقراءة وغيرها من وسائل تحصيل العلم. 

والأمثلة على ذلك كثيرة، واللبيب تكفيه الإشارة.

والخلاصة التي أختم بها: عليك أيها العاقل الموفق أن تهتم بغذاء روحك وعقلك أكثر من اهتمامك بغذاء جسدك، فإن أبيت فلا أقل من أن تعدل بينها في الاهتمام.
وعليك بأن تحرص على جمال سريرتك وباطنك أكثر من حرصك على جمال شكلك ولباسك.
واعلم بأن الله ينظر إلى قلبك وعملك ولا ينظر إلى صورتك وشكلك.

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
تجرد عريانا ولو كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه
ولا خير فيمن كان لله عاصيا.
زاد العقول الأرواح  ( ١ )

{ وجعلني مباركا أينما كنت}

ما أروعه من تعبير وما أحسنه من وصف!
مبارك أينما كان
قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: {جعلني مُبَارَكًا أينما كنت} قَالَ: معلما للخير.
وعلق ابن القيم على قول سفيان بقوله:  "وَهَذَا يدل على أن تَعْلِيم الرجل الْخَيْر هُوَ الْبركَة الَّتِي جعلهَا الله فِيهِ؛ فَإِن الْبركَة حُصُول الْخَيْر ونماؤه ودوامه، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ إِلَّا فِي الْعلم الْمَوْرُوث عَن الانبياء وتعليمه" انتهى.
ولما كتب ابن القيم رسالة إلى أحد إخوانه صدّرها بقوله:
( الله المسؤول المرجو الإجابة أن يحسن إلى الأخ علاء الدين في الدنيا والآخرة وينفع به ويجعله مباركا أينما كان؛ فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخبارا عن المسيح: {وجعلني مباركا أين ما كنت} أي معلما للخير داعيا إلى الله مذكرا به مرغبا في طاعته.
فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة ومحقت بركة لقائه والاجتماع به بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به..)

والمرء المبارك يتتبع رضوان الله حيثما كان فينفع نفسه، وينتفع به غيره، وصفه ابن القيم بـ"صاحب التعبد المطلق"

وقال عنه:
 "وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثرهـ على غيرهـ ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية .. كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة اخرى ، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره...إلخ [ ينظر للاستزادة مدارج السالكين(1/111) ]

ووصفه الشيخ بكر ابو زيد بـ[الطراز المبارگ] فقال :
"إن القيم والأقدار، وآثارها الحسان الممتدة على مسارب الزمن لا تقوَّم بالجاه والمنصب والمال والشهرة وكيل المدائح والألقاب، وإنما قوامها وتقويمها بالفضل والجهاد وربط العلم بالعمل، مع نبل نفس وأدب جمّ وحسن سمتٍ؛ فهذه وأمثالها هي التي توزن بها الرجال والأعمال .. وإلى هذا الطراز المبارك تشخُصُ أبصار العالم ، ولكل نبأ مستقر" [تصنيف الناس بين الظن واليقين صـ7) ] 

ومن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع إلى رسالة للشيخ عادل آل عبدالعالي بعنوان 
"مبارك أينما كنت"

نوع التعليق المطلوب

Disqus إدخال إسم المستخدم