الاثنين، 21 أبريل 2014

فبذلك فليفرحوا

زاد العقول والأرواح ( 11 )

{ فبذلك فليفرحوا }

علامة فارقة واضحة بين المؤمن الصادق ومريض القلب الغافل:
المؤمن تسره حسنته ويفرح بما يقربه إلى ربه، وتحزنه سيئته، ويغتمّ إذا قصّر في حقّ ربه جلّ وعلا.

وغيره لا يبالي إذا وقع التقصير، ولا يحزن إذا أساء وفعل المعصية.

ثبت في الحديث: "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ".
قال الإمام الكبير ابن عبدالبر الأندلسي: (  فليت شعري من قال لأخيه يا كافر وهو ممن تسره حسنته وتسؤه سيئته؛ لأي شيء تكون الشهادة عليه بالكفر أولى من الشهادة له بالإيمان؟!.)

قال عبد الله بن المبارك: "من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيراً، ثم لا يبالي ولا يحزن عليه".

وليتأمل اللبيب العاقل هذا القول الذي ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب ذمّ الدنيا ١ / ١٤٠ :
( قال محمد بن سوقة:  أمران لو لم نُعذب إلا بهما كنا مستحقين بهما لعذاب الله:
أحدنا يُزاد الشيء من الدنيا فيفرح فرحا ما علم الله أنه فرحه بشيء زاده قط في دينه.
وينقص الشيء من الدنيا فيحزن عليه حزنا ما علم الله أنه حزنه على شيء نقصه قط في دينه.)

وأختم بكلام جميل ذكره الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين:
( فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهانى والبشائر من كل جانب؛ فإنه لا حزن مع الله أبدا.
 ولهذا قال تعالى حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه أبى بكر: {لا تحزن إن الله معنا}، فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أى شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأى شيء يفرح؟.
قال تعالى:{قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}، فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه.
فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به: من حبيب أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك. يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها فى قلبه ومضرتها فى وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقاهم الله نضرة وسرورا.
فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذى شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم.
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ). انتهى

الأربعاء، 9 أبريل 2014

فاستقم كما أمرت

زاد العقول والأرواح ( 10):

{ فاستقم كما أمرت }

في ظل المحن والشدائد، وعند تسلط الأعداء وتكالبهم، وتحت قهر الظلمة وطغيانهم تظهر الحاجة إلى هذا التوجيه الكريم الثقيل.
إنه أمر صريح بلزوم طريق واحد ومسار محدد، لا مجال للخروج عنه، ولا للتهاون في الاستمرار عليه.

وإن من يمر بالأزمات والمحن ممن ينشد الإصلاح ينقسمون في الغالب إلى الأقسام التالية:

الأول: يفقد الأمل ويترك العمل

الثاني: يتهور ويتعجل ويلجأ إلى العنف والتصرفات غير المحسوبة. 

الثالث: يركن للقوي الظالم ويميل إليه ويتعايش معه.

ولكن المسلك الصحيح الوحيد هو ما بيّنه العليم الحكيم في قوله: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}.

فقد تضمن هذا التوجيه أمرًا ونهيين:
أما الأمر فهو : {فاستقم كما أمرت} أي: استمر على العمل الدعوة والإصلاح.
والاستقامة - كما قال القرطبي- هي الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال.

( وما أعظم موقع هذه الآية وأشدّ أمرها، فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهرة، والذوات المقدسة.) كما قال الشوكاني.

 ثم جاء النهي الأول، وهو: { ولا تطغوا } أي: إياكم والتهور والطغيان وتجاوز حد الاستقامة المأمور بها.

ثم جاء النهي الثاني: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } أي:  لا تميلوا إليهم بمودة ولا ترضوا أعمالهم ولا تداهنوهم.

فطريق الاستقامة التي أمر الله بها بين "لاءين"، لا "لا تطغوا" ولا "لا تركنوا".

ولا تتحقق هذه الاستقامة إلا بالعلم بأمر الله وشرعه "كما أمرت".
ولا تنتظم إلا بوجود القائد القدوة الذي يطمئن الأتباع إليه، كما يشير إليه توجيه الأمر "فاستقم" بالإفراد، وذكر المعية في قوله: "ومن تاب معك". 

وأهمُّ ما يضمن الثبات عليها، ويعين على تحمل أعبائها أمران :
الأول: إقامة الصلاة والمحافظة على أوقاتها.
والثاني:  الصبر.
وهذا ما أفاده قول الله تعالى بعد الآيتين السابقتين: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ . وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

اللهم وفقنا للاستقامة على دينك كما تحب يا ربنا وترضى.

دعوة للتأمل: تضمنت الآيات الأربع السابقة ثلاثة أوامر، ونهيين.
فالأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى "فاستقم"، "وأقم الصلاة"، "واصبر".
والنهيان جاءا بصيغة الجمع: "ولا تطغوا"، "ولا تركنوا إلى الذين طلموا".
فهل لذلك من دلالة؟!

الأحد، 6 أبريل 2014

ولعبد مؤمن خير من مشرك

زاد العقول والأرواح ( 9 ):

{ ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم }

من دلائل العلم الصحيح والإيمان الصادق أن يكون حكمك على الأشياء والأشخاص مبنيا على الموازين الربانية، لا على المقاييس البشرية.
فالموازين الربانية هي الإيمان والصلاح ولو كان صاحبها فقيرا لا مال له، مغمورا لا جاه له ولا شهرة.

وأما المقاييس البشرية فتعود في الغالب إلى المال والجاه والجمال والنسب ونحو ذلك من المظاهر.

وإليك هذين النموذجين:

الأول: الموقف من الطاغية قارون،الذي آتاه الله من الكنوز ما لم يؤته غيره.
فكان إذا خرج على قومه في زينته ينقسم الناس فيه إلى قسمين، ذكرهما الله بقوله:
{ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}.
فالذين لا هم لهم إلا الدنيا، ولم يؤتوا من العلم ما يكشف لهم الأمور على حقائقها تمنوا أن يكون لهم مثله، لأنه في نظرهم القاصر ذو حظ عظيم!!
( وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى مطلبها، لَمِنْ أدنى الهمم وأسفلها، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب الغالية.) كما قال السعدي رحمه الله.

وأما الذين آتاهم الله علما وبصيرة، ونظروا إلى بواطن الأمور لا إلى ظواهرها، وبنوا حكمهم على العواقب والمآلات؛ فتأسفوا على جهل أولئك، وبينوا لهم الميزان الصحيح الذي يجب أن توزن به الأحكام.

وأما الموقف الثاني فهو ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عن سهل بن سعد، قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا».
الله أكبر
هذا الرجل الفقير الذي لا وزن له عند الناس خير من ملء الأرض مثل هذا الذي له مكانة ووزن عندهم.

وأختم بهذه القاعدة، وهي أن 
"حكمك على الآخرين هو في الحقيقة حكم منك على نفسك"
وبيانها باختصار: أن من أعجبت بهم وأثنيت عليهم وأحببتهم فأنت منهم ومعهم.


وقفة أخيرة:
ختم الإمام الذهبي ترجمته للملحد ابن الراوندي بتعليق جدير بأن يُتأمّل، قال-رحمه الله-:
لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى.

[سير أعلام النبلاء/ 14ج/ ص62]

نوع التعليق المطلوب

Disqus إدخال إسم المستخدم